Ads 468x60px

شارك لاصدقائك ع مواقع التواصل

السبت، 16 نوفمبر 2013

مثل الزارع والميلاد الثاني

مثل الزارع  والميلاد الثاني(1)

- 2 -

صورة: ‏مثل الزارع  والميلاد الثاني(1)

- 2 -

 	 

نلاحِظ أنه في مَثَل الزارع لم يقتصر كلام المسيح على الأرض الخصبة فقط، ولكنه تناول الأربع الصور التي يمكن أن تكون عليها إرادة الإنسان. وهذا ما سنشرحه في هذا العدد:

أولاً: «وفيما هو يزرع سقط بعضٌ على الطريق»:

في هذه الصورة يُقدِّم لنا المسيح ذلك الإنسان غير القادر على كبح أفكاره، ذلك الإنسان صاحب الفكر المُشوَّش الذي هو دائماً في حالة من التوهان، تارة يميناً وتارة يساراً. فحريته لها أشكال متعددة، وضميره يسكن فيه آلاف من الصور التي تمرُّ فيه كما يمرُّ رَتْلٌ من السيارات على طريق ممهَّد، فهو مرتبط بكَمٍّ هائل من المشغوليات. هموم ومشاكل متعددة تخترقه وتقوده هنا وهناك، وتطرحه صريعاً للمتناقضات. مثل هذا الإنسان نجده ضحيَّة للأرواح الشريرة، ذلك لأن العدو يخترقنا عن طريق الأفكار ويُفقدنا ما نملكه من وسائل دفاعية حتى أن كلمات الله المحيية لا تستطيع أن تنقذنا، لأن الشيطان لا يدعها تستقر بل يأتي ويختطفها: «فجاءت الطيور وأكلته».

فالحرب تبدأ دائماً بالأفكار ومواجهة هذه الأفكار يجب أن يكون بالصلاة كما علَّمنا الرب يسوع: «ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُمَلَّ» (لو 18: 1)، وكما علَّمنا بولس الرسول: «صلُّوا بلا انقطاع» (1تس 5: 17). والصلاة بلا انقطاع هي أن نضع فكرة واحدة في العقل بدلاً من الأفكار الكثيرة التي تُشوِّش عقولنا. وهذه الفكرة الواحدة هي ما تُسمَّى بـ ”الصلاة الداخلية“، والتي هي عبارة عن جمل قصيرة يُردِّدها الإنسان ردّاً على ما يجول بخاطره، الشيء الذي يساعد الإنسان على تجميع أفكاره وتوجيهها روحياً في المسيح.

وهذا النوع من الصلاة عُرِف على مدار العهدَيْن القديم والجديد.

+  ففي العهد القديم نجد صلوات قصيرة مثل:
+ «أشفق يا رب على شعبك» (يوئيل 2: 17).
+ «آه يا رب نجِّ نفسي» (مز 116: 4).
+ «الرب الرب إله رحيم ورؤوف» (خر 34: 6).
+ «اللهم باسمك خلِّصني» (مز 54: 1).
+ أما في العهد الجديد فنرى صرخة الأعمى إلى الرب يسوع:
+ «يا ابن داود ارحمني» (مر 10: 48).
إذن، فكل منا يجد كيانه في الكتاب المقدس، يجده في فكرة أو في شخصية أو حتى في آية من آياته. ولكن المهم هو أن نبدأ من تلك النقطة التي نجد فيها كياننا ثم نستمر بدأبٍ نحو باقي الكتاب. فنستيقظ بهذه الآية وننام بها، نزرعها على مدى الأيام ونستنبتها من مكامن أنفسنا وسوف نجد النتيجة مذهلة، إذ أن صلاة مثل هذه تتلامس مع حالتنا الراهنة - أيّاً كانت - وسوف تقودنا إلى النمو وتطرد عنا الأفكار الرديئة ليختفي ذلك الكَم الهائل من الأفكار الذي يُشوِّش عقولنا، وتبقى فقط هذه الفكرة أو هذه الصلاة التي نمتدُّ منها إلى إدراك ما هو أعمق.

لذلك، فالإنسان الذي له اتجاه ثابت يسعى فيه بغرض الوصول إلى الله كغاية أساسية، مثل هذا الإنسان سوف يتقدَّس ذهنه ويصبح هو نفسه عذراء عفيفة للمسيح، عذراء محبوبة جداً يُدرِّبها عريسها ويُمرِّنها دون أن يُصيبها الإعياء. لماذا؟ لأنها مستقيمة القلب، خاضعة بالكامل لله من خلال نقاء الذهن وعدم تشوُّشه.

والمسيح ليس فقط قال: ”صلُّوا“، ولكنه قال أيضاً: ”اسهروا“. و”السهر الروحي“ هو من عمل النعمة، وهو يمنع عنا الأفكار المتواترة التي من شأنها أن تفصل الإنسان عن واقعه، ومِن ثمَّ تجعله أسيراً لأمور وهمية.

ففي اللحظة التي نكون فيها متيقظين، نكون فيها أيضاً أحراراً من كل فكرٍ مؤذٍ. أما اليقظة الروحية في مفهومها، فهي أن يقول الإنسان لنفسه ليس هناك إلاَّ ”هنا“ و”الآن“، ويجب عليَّ أن أكون مستعدّاً، مسروراً، حاضراً في كل لحظة من لحظات العمر دون أن يكون هناك هروبٌ للعقل من الواقع. هذه هي عين الحرية التي أرادها الله لنا. وعلينا أن نعرف أيضاً أن هذه اليقظة الروحية غير كافية وحدها لحفظ الفكر، لذلك قال المسيح: «اسهروا وصلُّوا» (مت 26: 41؛ مر 13: 33)؛ إذ أن اليقظة تحرر العقل من الأوهام، بينما الصلاة هي التي تمنحنا قوة حقيقية للانطلاق تجاه الملكوت.

ثانياً: «وسقط آخر على الأماكن المُحجرة»:

هناك بالفعل خطرٌ كبيرٌ في تصنيف الأفكار والمشاعر، إذ أن الإنسان الذي يصل إلى هذا المستوى من تحديد الفكر وضبطه إذا لم ينتبه فسوف يصيبه ما يُسمَّى بـ ”جمود القلب“. وهذه الحالة يتحوَّل فيها الإنسان ويندفع بكل ما فيه من غيرة للبحث عن المبادئ وتطبيقها كغاية في حدِّ ذاتها، وليس كوسيلة، وحينئذ يكون مثالياً ولكن دون محبة، وربما يصل إلى مستوى أخلاقي أشبه ما يكون بالكمال، ولكنه يكون أيضاً فارغ الجوهر، حيث إن القلب في هذه الحالة يكون عطشاناً مشقَّقاً، وهذا ما يجعل صاحبه خاضعاً لِمَا يتطلَّبه الواقع من ”إيمان شكلي“ يفضي به حتماً إلى الجفاف واللامبالاة.

مثل هذا الإنسان لا يطيق أن يعيش الحياة كما هي ”هنا والآن“، ولكنه دائماً يحلم بزمن آخر مختلف وبمكان آخر غير الذي يعيش فيه، وخطورة هذه الحالة أن اكتشافها هو في غاية الصعوبة، لأنها تجعل من الشخص حكيماً روحياً في عيني نفسه فلا يقبل توجيهاً من أحد.

لذلك يجب أن يكون القلب ملتهباً بحب الله، وبالرغبة في الحياة مع الله حيث ينزل العقل في هذه الحالة ويستقر في القلب ويتحد به، فيصير العقل الجامد حيّاً بالمحبة والرجاء، ويكتسب صفاتٍ فائقة. على أن الصلاة الصادقة مع طلب الغفران والثقة في نواله، يُخلِّصان القلب من البرودة والظلام ما يدفعه للتسبيح.

وبالرغم من أهمية الصلاة وضرورة طلب الغفران إلاَّ أن ”الفرح الروحي“ هو الطريقة الرائعة التي تشعل نار الحب الإلهي في القلب. فحينما يقول بولس الرسول: ”افرحوا“ (في 4: 4)، فإنه يقولها من باب الوصية، وكل مَن يتمسَّك بهذه الوصية خاصة في أوقات التجارب فإنه سوف يحظى بالنور الإلهي في داخله، وسوف يندفع في تسبيح وتمجيد الله، وحينئذ تتركه حالة الجمود القلبي ويحلُّ في قلبه الحب والسلام والدفء الروحي. ومن المؤكد سوف يجد هذا الإنسان صوتاً جديداً يصرخ فَرِحاً في قلبه قائلاً: ”حقاً إن هذه لحياة رائعة“!!

ثالثاً: «وسقط آخر على الشوك»:

الحالة الثالثة في مَثَل الزارع هي الأشواك التي تواجه الإنسان وتحاول خنق الروح الذي فيه. فالإنسان حينما يشعر بعمل النعمة في داخله تزداد حرارته الروحية وحيويته ويكون لديه الاستعداد للنمو والتغيير، ولكن الشيطان لا يتصوَّر حدوث مثل هذا النمو؛ لذا فهو يحاول تكبيل الإنسان بألف طريقة، وهذه هي الأشواك التي تعوق نمو الحنطة.

فمثلاً الفرح الذي يتأتَّى لنا من قِبَل النعمة يمكن أن يوقع الإنسان فيما يُسمَّى بـ ”الكسل الروحي“، إذ يشعر الإنسان بأنه ”قد وصل“، وذلك في الوقت الذي يجب عليه فيه أن يبذل جهداً مُضاعفاً لكي يحافظ على هذه النعمة. وكما يقول أحد الكُتَّاب الروحيين:

[إن الاستنارة لا تستطيع وحدها أن تجعل الإنسان مستنيراً. فالاستنارة بالنعمة تمثِّل عملية الوضع بالنسبة للمرأة، التي لكي يكتمل فرحها بهذا المولود الجديد لابد من العناية به والسهر عليه كي ينمو ويتقوى].

فنحن هنا في حالة مخاض روحي لا ينتهي ما دمنا على الأرض، لذلك فعلينا أن نسهر دائماً حتى لا نفقد ما نلده روحياً بالنعمة.

وخطورة الكسل الروحي أيضاً أنه يوقف كل نمو ولا يمكن معه حدوث أي نوع من التغيير، إذ أنه يُغرِق الإنسان في اللامبالاة والتشوش الفكري، ومِن ثمَّ الانكباب على ما في هذا العالم من ملذات.

ويُعدُّ ”الكبرياء“ و”الزهو بالنفس“ من أقصر الطرق التي تؤدِّي إلى ”تجربة الاختناق“، ذلك لأن الكبرياء هو ألم مُركَّب يمكن أن يوجِد لنفسه مكاناً حتى في الأعمال الصالحة. وهو يوعز للإنسان بأنه هو مصدر نموه الروحي، وبذلك ينزلق الإنسان حتماً إلى إنكار قوة الله والتجديف عليه بصورة خفية. وعلامة هؤلاء هو أنهم يندفعون إلى العيش بأنفسهم ولأنفسهم فقط بعيداً عن الله. فهم لا يبحثون عن ميراثهم في المسيح، لماذا؟ لأنهم مكتفون بأنفسهم. هم يُكرمون الله بشفاههم فقط، ولكن حياتهم وأفكارهم كلها تنكر وجود الله. فكبرياؤهم مخفي تحت ستار من مظاهر الروحانية، وهذه عينها هي حالة الفتور التي يبغضها المسيح:

+ «هكذا لأنك فاترٌ، ولستَ بارداً ولا حاراً، أنا مُزمِعٌ أن أتقيَّأك من فمي. لأنك تقول: إني أنا غنيٌّ وقد استغنيتُ، ولا حاجة لي إلى شيء، ولستَ تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقيرٌ وأعمى وعريان. أُشير عليك أن تشتري مني ذهباً مُصفًّى بالنار لكي تستغني، وثياباً بِيضاً لكي تلبس، فلا يظهر خِزي عُرْيتك. وكحِّل عينيك بكُحْلٍ لكي تُبصر» (رؤ 3: 16-18).

فنحن، إذن، قد أصبحنا فاترين! لماذا؟ لأن لنا مظهر الروحانية، بينما نحن مُكبَّلون بالعمل ومهمومون بالدنيا ومنشغلون بذواتنا، وكل ذلك نتيجة لكبريائنا.

لذلك فمَن لا يحرث أرضه دائماً بمحراث الاتضاع لن يستطيع أن يتغلَّب على الأشواك المحيطة به. والمتضع الحقيقي هو الشخص الذي يضع رجاءه في المسيح ويتيقن في نفسه أنه لا يستطيع شيئاً بدونه: «لأنه إن ظن أحدٌ أنه شيء وهو ليس شيئاً، فإنه يغشُّ نفسه» (غل 6: 3). والشخص الذي يضع في نفسه أنه لا يستطيع شيئاً، لا يتركه الله يُعاني شعور الضعف والعجز، بل يملأه من حضوره المُفرح ويمنحه قوة تُمكِّنه من التغلُّب على أعدائه.

رابعاً: «وسقط آخر على الأرض الجيدة»:

إن الحالة الرابعة في مَثَل الزارع هي حالة الأرض الخصبة. والخصوبة الروحية مرتبطة ارتباطاً تاماً بالاتضاع، ذلك لأن الاتضاع هو قبول كُلِّي لمشيئة الله، هو انفتاح على كل ما سوف يحدث، هو قبول المحراث الذي يشق الأرض، وقبول للبذرة التي ستثمر بعد ذلك والمطر الذي سيُغذيها. فالأرض الخصبة (الجيدة) هي الأرض التي تترك نفسها للتقليب: للعَزْق وللشق!!

والأرض الخصبة لا تستحق هذا الاسم إلاَّ إذا كانت بالفعل خالصة ونقية، أي ليس بها انقسام، ليس لها مشيئة ذاتية. هي تربة بلا صخور ولا حصى أو أي شيء يعيق نمو الغرس. هي مُعدَّة تماماً لاستقبال مشيئة الله بفرح. ليس لها إلاَّ اتجاه واحد. قلبها لا يسكن فيه غير الله، لذلك فهي أرض عذراء حينما تقع فيها البذور فإنها تتحد بها بعهد زيجي يدخل فيه الاثنان في علاقة تبادلية غاية في العمق والسرِّية؛ إذ تصبح الأرض هي العروس التي قبلت كل الأمور بفرح فأثمرت ثمراً مُفرحاً. لذلك فلن نستطيع أن نثمر إلاَّ إذا تركنا ذواتنا لمشيئة الله.

وفي الطريق الروحي لا توجد بتولية دون زواج، ولا زواج دون أمومة. وهذا هو السر الثالث الذي تكشفه لنا الأرض الخصبة، فهي أولاً: عذارء، ثم ثانياً: بِكر، ثم ثالثاً: أُم. وهذه المراحل الثلاث مرتبطة مع بعضها برباط قوي لا يمكن حلُّه. فالبذرة والأرض تتحدان معاً اتحاداً كاملاً يسمح للبذرة أن تتمخَّض وتلد ابناً يمثِّل بالنسبة لها كيانها الحقيقي.

والأرض الجيدة تشير إلى التلميذ الحقيقي، ذلك الذي مثَّلته العذراء أروع تمثيل. فهي الأرض العذراء، والأرض الزوجة، والأرض الأُم. وسرُّ هذه الخصوبة الروحية في حياة العذراء هو الاتضاع الحقيقي.

فمن العذراء نتعلَّم أن البتولية هي نقطة البداية المطلقة وغير المشروطة سواء للمتزوج أو لغير المتزوج. فالبتولية هي البداية لأي حُب حقيقي، إذ كيف لإنسان أن يحب وقلبه منقسم؟ أو كيف لإنسان أن يتصالح مع نفسه وهو مُكبَّل بالشهوات. فالبتولية، إذن، هي المحراث الذي يُقلِّب الأرض ويُمهِّدها لاستقبال ”الحُب“، فهي نقطة البداية والتي منها تنطلق كل الطاقات باتجاه النمو والإثمار.

وبداية البتولية الروحية - كما قلنا - هي الحُب الحقيقي الذي يقود حتماً إلى الاتحاد والشركة ثم الزيجة التي هي هدف البتولية الوحيد. وبتولية مثل هذه تكون ممكنة جداً إذا تخلَّى الإنسان عن ذاته واهتماماته حتى ينمو في الحُب.

والحُب ليس عطية شخصية، بل هو عطية لي ولِمَن حولي في نفس الوقت. فحينما تُقدِّم حُباً باذلاً من القلب، فثق أنه سوف يستقر في قلب الآخر بصورة أو بأخرى، وذلك تماماً كما أحب الله الخليقة فاستقر حُبه في كل شيء فيها، بل وفي كل لحظة من لحظات زمنها.

ونحن حينما نُقدِّم حُباً باذلاً مثل هذا، فسوف يولَد فينا الكلمة نفسه ونصير ”خريستوفوروس“ أي حاملين للمسيح، وهذا يمنحنا أن نكون «مُترفقين في وسطكم كما تُربِّي المُرضعة أولادها. هكذا إذ كنا حانِّين إليكم، كُنَّا نَرضَى أن نُعطيكم، لا إنجيل الله فقط بل أنفسنا أيضاً، لأنكم صرتم محبوبين إلينا» (1تس 2: 8،7)؛ ليس هذا فقط بل أن نلد الآخرين أيضاً: «يا أولادي الذين أتمخَّض بكم أيضاً إلى أن يتصوَّر المسيح فيكم» (غل 4: 19). وهذا هو الميلاد الجديد لكل ما نقابله في الطريق.

لذلك، فلكي نولَد جديداً كل يوم يجب أن نتمسَّك بالاتضاع حتى تتنقَّى تربتنا بما يؤهِّلنا للنمو من البتولية تجاه الزيجة ثم الأُمومة الروحية.‏
      

نلاحِظ أنه في مَثَل الزارع لم يقتصر كلام المسيح على الأرض الخصبة فقط، ولكنه تناول الأربع الصور التي يمكن أن تكون عليها إرادة الإنسان. وهذا ما سنشرحه في هذا العدد:

أولاً: «وفيما هو يزرع سقط بعضٌ على الطريق»:

في هذه الصورة يُقدِّم لنا المسيح ذلك الإنسان غير القادر على كبح أفكاره، ذلك الإنسان صاحب الفكر المُشوَّش الذي هو دائماً في حالة من التوهان، تارة يميناً وتارة يساراً. فحريته لها أشكال متعددة، وضميره يسكن فيه آلاف من الصور التي تمرُّ فيه كما يمرُّ رَتْلٌ من السيارات على طريق ممهَّد، فهو مرتبط بكَمٍّ هائل من المشغوليات. هموم ومشاكل متعددة تخترقه وتقوده هنا وهناك، وتطرحه صريعاً للمتناقضات. مثل هذا الإنسان نجده ضحيَّة للأرواح الشريرة، ذلك لأن العدو يخترقنا عن طريق الأفكار ويُفقدنا ما نملكه من وسائل دفاعية حتى أن كلمات الله المحيية لا تستطيع أن تنقذنا، لأن الشيطان لا يدعها تستقر بل يأتي ويختطفها: «فجاءت الطيور وأكلته».

فالحرب تبدأ دائماً بالأفكار ومواجهة هذه الأفكار يجب أن يكون بالصلاة كما علَّمنا الرب يسوع: «ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُمَلَّ» (لو 18: 1)، وكما علَّمنا بولس الرسول: «صلُّوا بلا انقطاع» (1تس 5: 17). والصلاة بلا انقطاع هي أن نضع فكرة واحدة في العقل بدلاً من الأفكار الكثيرة التي تُشوِّش عقولنا. وهذه الفكرة الواحدة هي ما تُسمَّى بـ ”الصلاة الداخلية“، والتي هي عبارة عن جمل قصيرة يُردِّدها الإنسان ردّاً على ما يجول بخاطره، الشيء الذي يساعد الإنسان على تجميع أفكاره وتوجيهها روحياً في المسيح.

وهذا النوع من الصلاة عُرِف على مدار العهدَيْن القديم والجديد.

+  ففي العهد القديم نجد صلوات قصيرة مثل:
+ «أشفق يا رب على شعبك» (يوئيل 2: 17).
+ «آه يا رب نجِّ نفسي» (مز 116: 4).
+ «الرب الرب إله رحيم ورؤوف» (خر 34: 6).
+ «اللهم باسمك خلِّصني» (مز 54: 1).
+ أما في العهد الجديد فنرى صرخة الأعمى إلى الرب يسوع:
+ «يا ابن داود ارحمني» (مر 10: 48).
إذن، فكل منا يجد كيانه في الكتاب المقدس، يجده في فكرة أو في شخصية أو حتى في آية من آياته. ولكن المهم هو أن نبدأ من تلك النقطة التي نجد فيها كياننا ثم نستمر بدأبٍ نحو باقي الكتاب. فنستيقظ بهذه الآية وننام بها، نزرعها على مدى الأيام ونستنبتها من مكامن أنفسنا وسوف نجد النتيجة مذهلة، إذ أن صلاة مثل هذه تتلامس مع حالتنا الراهنة - أيّاً كانت - وسوف تقودنا إلى النمو وتطرد عنا الأفكار الرديئة ليختفي ذلك الكَم الهائل من الأفكار الذي يُشوِّش عقولنا، وتبقى فقط هذه الفكرة أو هذه الصلاة التي نمتدُّ منها إلى إدراك ما هو أعمق.

لذلك، فالإنسان الذي له اتجاه ثابت يسعى فيه بغرض الوصول إلى الله كغاية أساسية، مثل هذا الإنسان سوف يتقدَّس ذهنه ويصبح هو نفسه عذراء عفيفة للمسيح، عذراء محبوبة جداً يُدرِّبها عريسها ويُمرِّنها دون أن يُصيبها الإعياء. لماذا؟ لأنها مستقيمة القلب، خاضعة بالكامل لله من خلال نقاء الذهن وعدم تشوُّشه.

والمسيح ليس فقط قال: ”صلُّوا“، ولكنه قال أيضاً: ”اسهروا“. و”السهر الروحي“ هو من عمل النعمة، وهو يمنع عنا الأفكار المتواترة التي من شأنها أن تفصل الإنسان عن واقعه، ومِن ثمَّ تجعله أسيراً لأمور وهمية.

ففي اللحظة التي نكون فيها متيقظين، نكون فيها أيضاً أحراراً من كل فكرٍ مؤذٍ. أما اليقظة الروحية في مفهومها، فهي أن يقول الإنسان لنفسه ليس هناك إلاَّ ”هنا“ و”الآن“، ويجب عليَّ أن أكون مستعدّاً، مسروراً، حاضراً في كل لحظة من لحظات العمر دون أن يكون هناك هروبٌ للعقل من الواقع. هذه هي عين الحرية التي أرادها الله لنا. وعلينا أن نعرف أيضاً أن هذه اليقظة الروحية غير كافية وحدها لحفظ الفكر، لذلك قال المسيح: «اسهروا وصلُّوا» (مت 26: 41؛ مر 13: 33)؛ إذ أن اليقظة تحرر العقل من الأوهام، بينما الصلاة هي التي تمنحنا قوة حقيقية للانطلاق تجاه الملكوت.

ثانياً: «وسقط آخر على الأماكن المُحجرة»:

هناك بالفعل خطرٌ كبيرٌ في تصنيف الأفكار والمشاعر، إذ أن الإنسان الذي يصل إلى هذا المستوى من تحديد الفكر وضبطه إذا لم ينتبه فسوف يصيبه ما يُسمَّى بـ ”جمود القلب“. وهذه الحالة يتحوَّل فيها الإنسان ويندفع بكل ما فيه من غيرة للبحث عن المبادئ وتطبيقها كغاية في حدِّ ذاتها، وليس كوسيلة، وحينئذ يكون مثالياً ولكن دون محبة، وربما يصل إلى مستوى أخلاقي أشبه ما يكون بالكمال، ولكنه يكون أيضاً فارغ الجوهر، حيث إن القلب في هذه الحالة يكون عطشاناً مشقَّقاً، وهذا ما يجعل صاحبه خاضعاً لِمَا يتطلَّبه الواقع من ”إيمان شكلي“ يفضي به حتماً إلى الجفاف واللامبالاة.

مثل هذا الإنسان لا يطيق أن يعيش الحياة كما هي ”هنا والآن“، ولكنه دائماً يحلم بزمن آخر مختلف وبمكان آخر غير الذي يعيش فيه، وخطورة هذه الحالة أن اكتشافها هو في غاية الصعوبة، لأنها تجعل من الشخص حكيماً روحياً في عيني نفسه فلا يقبل توجيهاً من أحد.

لذلك يجب أن يكون القلب ملتهباً بحب الله، وبالرغبة في الحياة مع الله حيث ينزل العقل في هذه الحالة ويستقر في القلب ويتحد به، فيصير العقل الجامد حيّاً بالمحبة والرجاء، ويكتسب صفاتٍ فائقة. على أن الصلاة الصادقة مع طلب الغفران والثقة في نواله، يُخلِّصان القلب من البرودة والظلام ما يدفعه للتسبيح.

وبالرغم من أهمية الصلاة وضرورة طلب الغفران إلاَّ أن ”الفرح الروحي“ هو الطريقة الرائعة التي تشعل نار الحب الإلهي في القلب. فحينما يقول بولس الرسول: ”افرحوا“ (في 4: 4)، فإنه يقولها من باب الوصية، وكل مَن يتمسَّك بهذه الوصية خاصة في أوقات التجارب فإنه سوف يحظى بالنور الإلهي في داخله، وسوف يندفع في تسبيح وتمجيد الله، وحينئذ تتركه حالة الجمود القلبي ويحلُّ في قلبه الحب والسلام والدفء الروحي. ومن المؤكد سوف يجد هذا الإنسان صوتاً جديداً يصرخ فَرِحاً في قلبه قائلاً: ”حقاً إن هذه لحياة رائعة“!!

ثالثاً: «وسقط آخر على الشوك»:

الحالة الثالثة في مَثَل الزارع هي الأشواك التي تواجه الإنسان وتحاول خنق الروح الذي فيه. فالإنسان حينما يشعر بعمل النعمة في داخله تزداد حرارته الروحية وحيويته ويكون لديه الاستعداد للنمو والتغيير، ولكن الشيطان لا يتصوَّر حدوث مثل هذا النمو؛ لذا فهو يحاول تكبيل الإنسان بألف طريقة، وهذه هي الأشواك التي تعوق نمو الحنطة.

فمثلاً الفرح الذي يتأتَّى لنا من قِبَل النعمة يمكن أن يوقع الإنسان فيما يُسمَّى بـ ”الكسل الروحي“، إذ يشعر الإنسان بأنه ”قد وصل“، وذلك في الوقت الذي يجب عليه فيه أن يبذل جهداً مُضاعفاً لكي يحافظ على هذه النعمة. وكما يقول أحد الكُتَّاب الروحيين:

[إن الاستنارة لا تستطيع وحدها أن تجعل الإنسان مستنيراً. فالاستنارة بالنعمة تمثِّل عملية الوضع بالنسبة للمرأة، التي لكي يكتمل فرحها بهذا المولود الجديد لابد من العناية به والسهر عليه كي ينمو ويتقوى].

فنحن هنا في حالة مخاض روحي لا ينتهي ما دمنا على الأرض، لذلك فعلينا أن نسهر دائماً حتى لا نفقد ما نلده روحياً بالنعمة.

وخطورة الكسل الروحي أيضاً أنه يوقف كل نمو ولا يمكن معه حدوث أي نوع من التغيير، إذ أنه يُغرِق الإنسان في اللامبالاة والتشوش الفكري، ومِن ثمَّ الانكباب على ما في هذا العالم من ملذات.

ويُعدُّ ”الكبرياء“ و”الزهو بالنفس“ من أقصر الطرق التي تؤدِّي إلى ”تجربة الاختناق“، ذلك لأن الكبرياء هو ألم مُركَّب يمكن أن يوجِد لنفسه مكاناً حتى في الأعمال الصالحة. وهو يوعز للإنسان بأنه هو مصدر نموه الروحي، وبذلك ينزلق الإنسان حتماً إلى إنكار قوة الله والتجديف عليه بصورة خفية. وعلامة هؤلاء هو أنهم يندفعون إلى العيش بأنفسهم ولأنفسهم فقط بعيداً عن الله. فهم لا يبحثون عن ميراثهم في المسيح، لماذا؟ لأنهم مكتفون بأنفسهم. هم يُكرمون الله بشفاههم فقط، ولكن حياتهم وأفكارهم كلها تنكر وجود الله. فكبرياؤهم مخفي تحت ستار من مظاهر الروحانية، وهذه عينها هي حالة الفتور التي يبغضها المسيح:

+ «هكذا لأنك فاترٌ، ولستَ بارداً ولا حاراً، أنا مُزمِعٌ أن أتقيَّأك من فمي. لأنك تقول: إني أنا غنيٌّ وقد استغنيتُ، ولا حاجة لي إلى شيء، ولستَ تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقيرٌ وأعمى وعريان. أُشير عليك أن تشتري مني ذهباً مُصفًّى بالنار لكي تستغني، وثياباً بِيضاً لكي تلبس، فلا يظهر خِزي عُرْيتك. وكحِّل عينيك بكُحْلٍ لكي تُبصر» (رؤ 3: 16-18).

فنحن، إذن، قد أصبحنا فاترين! لماذا؟ لأن لنا مظهر الروحانية، بينما نحن مُكبَّلون بالعمل ومهمومون بالدنيا ومنشغلون بذواتنا، وكل ذلك نتيجة لكبريائنا.

لذلك فمَن لا يحرث أرضه دائماً بمحراث الاتضاع لن يستطيع أن يتغلَّب على الأشواك المحيطة به. والمتضع الحقيقي هو الشخص الذي يضع رجاءه في المسيح ويتيقن في نفسه أنه لا يستطيع شيئاً بدونه: «لأنه إن ظن أحدٌ أنه شيء وهو ليس شيئاً، فإنه يغشُّ نفسه» (غل 6: 3). والشخص الذي يضع في نفسه أنه لا يستطيع شيئاً، لا يتركه الله يُعاني شعور الضعف والعجز، بل يملأه من حضوره المُفرح ويمنحه قوة تُمكِّنه من التغلُّب على أعدائه.

رابعاً: «وسقط آخر على الأرض الجيدة»:

إن الحالة الرابعة في مَثَل الزارع هي حالة الأرض الخصبة. والخصوبة الروحية مرتبطة ارتباطاً تاماً بالاتضاع، ذلك لأن الاتضاع هو قبول كُلِّي لمشيئة الله، هو انفتاح على كل ما سوف يحدث، هو قبول المحراث الذي يشق الأرض، وقبول للبذرة التي ستثمر بعد ذلك والمطر الذي سيُغذيها. فالأرض الخصبة (الجيدة) هي الأرض التي تترك نفسها للتقليب: للعَزْق وللشق!!

والأرض الخصبة لا تستحق هذا الاسم إلاَّ إذا كانت بالفعل خالصة ونقية، أي ليس بها انقسام، ليس لها مشيئة ذاتية. هي تربة بلا صخور ولا حصى أو أي شيء يعيق نمو الغرس. هي مُعدَّة تماماً لاستقبال مشيئة الله بفرح. ليس لها إلاَّ اتجاه واحد. قلبها لا يسكن فيه غير الله، لذلك فهي أرض عذراء حينما تقع فيها البذور فإنها تتحد بها بعهد زيجي يدخل فيه الاثنان في علاقة تبادلية غاية في العمق والسرِّية؛ إذ تصبح الأرض هي العروس التي قبلت كل الأمور بفرح فأثمرت ثمراً مُفرحاً. لذلك فلن نستطيع أن نثمر إلاَّ إذا تركنا ذواتنا لمشيئة الله.

وفي الطريق الروحي لا توجد بتولية دون زواج، ولا زواج دون أمومة. وهذا هو السر الثالث الذي تكشفه لنا الأرض الخصبة، فهي أولاً: عذارء، ثم ثانياً: بِكر، ثم ثالثاً: أُم. وهذه المراحل الثلاث مرتبطة مع بعضها برباط قوي لا يمكن حلُّه. فالبذرة والأرض تتحدان معاً اتحاداً كاملاً يسمح للبذرة أن تتمخَّض وتلد ابناً يمثِّل بالنسبة لها كيانها الحقيقي.

والأرض الجيدة تشير إلى التلميذ الحقيقي، ذلك الذي مثَّلته العذراء أروع تمثيل. فهي الأرض العذراء، والأرض الزوجة، والأرض الأُم. وسرُّ هذه الخصوبة الروحية في حياة العذراء هو الاتضاع الحقيقي.

فمن العذراء نتعلَّم أن البتولية هي نقطة البداية المطلقة وغير المشروطة سواء للمتزوج أو لغير المتزوج. فالبتولية هي البداية لأي حُب حقيقي، إذ كيف لإنسان أن يحب وقلبه منقسم؟ أو كيف لإنسان أن يتصالح مع نفسه وهو مُكبَّل بالشهوات. فالبتولية، إذن، هي المحراث الذي يُقلِّب الأرض ويُمهِّدها لاستقبال ”الحُب“، فهي نقطة البداية والتي منها تنطلق كل الطاقات باتجاه النمو والإثمار.

وبداية البتولية الروحية - كما قلنا - هي الحُب الحقيقي الذي يقود حتماً إلى الاتحاد والشركة ثم الزيجة التي هي هدف البتولية الوحيد. وبتولية مثل هذه تكون ممكنة جداً إذا تخلَّى الإنسان عن ذاته واهتماماته حتى ينمو في الحُب.

والحُب ليس عطية شخصية، بل هو عطية لي ولِمَن حولي في نفس الوقت. فحينما تُقدِّم حُباً باذلاً من القلب، فثق أنه سوف يستقر في قلب الآخر بصورة أو بأخرى، وذلك تماماً كما أحب الله الخليقة فاستقر حُبه في كل شيء فيها، بل وفي كل لحظة من لحظات زمنها.

ونحن حينما نُقدِّم حُباً باذلاً مثل هذا، فسوف يولَد فينا الكلمة نفسه ونصير ”خريستوفوروس“ أي حاملين للمسيح، وهذا يمنحنا أن نكون «مُترفقين في وسطكم كما تُربِّي المُرضعة أولادها. هكذا إذ كنا حانِّين إليكم، كُنَّا نَرضَى أن نُعطيكم، لا إنجيل الله فقط بل أنفسنا أيضاً، لأنكم صرتم محبوبين إلينا» (1تس 2: 8،7)؛ ليس هذا فقط بل أن نلد الآخرين أيضاً: «يا أولادي الذين أتمخَّض بكم أيضاً إلى أن يتصوَّر المسيح فيكم» (غل 4: 19). وهذا هو الميلاد الجديد لكل ما نقابله في الطريق.

لذلك، فلكي نولَد جديداً كل يوم يجب أن نتمسَّك بالاتضاع حتى تتنقَّى تربتنا بما يؤهِّلنا للنمو من البتولية تجاه الزيجة ثم الأُمومة الروحية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق